من التخفي إلى التجسس: الدراما ترسم صورة نمطية للصحفي

التاريخ: 2025-08-07 07:40:55

شتّان بين هذه الصورة المستحدثة وبين أبطال "الصحافة الرزينة" في المسلسلات القديمة أو أفلام هوليوود حول بطولات صحفيي وصحفيات الاستقصاء في كشف الفساد وتزاوج السلطة ورأس المال.

أ. صفاء الرمحي 

في غمرة روتيني اليومي، رن هاتفي مع إشعار بوصول رسالة. فتحتها بفضول، لأجد مقطع فيديو لشخصية عامة معروفة في شأن يتعلق بحياته الخاصة، مصحوبًا بتعليق مقتضب: "جبتلك سبق صحفي!"

للحظة، تجمدت. لم يكن الفيديو صادمًا بحد ذاته بقدر ما كان صادمًا ردة فعل المرسل، وكأنني بطريقة ما سأهتم بنشر مثل هذه اللحظة الخاصة. عندها، تساءلت بجدية: من أين تأتي هذه الصورة النمطية لدور الصحفي في أذهان الناس؟ لماذا يُختزل معنى "السبق الصحفي" في فضيحة أو انتهاك للخصوصية؟

ظلال الدراما

في ذلك الوقت تحديدًا، كنت أتابع مسلسلًا تركيًا تدور أحداثه حول الجرائم. كان البطل صحفيًا شابًا طموحًا، يتحرك بشغف حقيقي بحثاً "قصص مثيرة تهز الرأي العام". في البداية، تعاطفت مع حماسه وإصراره على كشف الحقائق. لكن سرعان تكشّفت جوانب مظلمة في سعيه لتحقيق "السبق".

تابعته الكاميرا أثناء تجسسه على الناس؛ يتسلل إلى منازلهم وشركاتهم ليلًا، يخترق خصوصياتهم دون أدنى شعور بالذنب. بل كان يعدّ ذلك ضرورة حتمية لتحقيق هدفه. لم يكن البطل وحده يمثل هذه الصورة القاتمة؛ بل كان رؤساء التحرير في المسلسلات شخصيات تثير الاشمئزاز؛ فاسدة تستغل المنصب وتتلقى أموالا لتوجيه الرأي العام وتشويه الحقائق خدمة لمصالحها الخاصة.

وهكذا برزت الفضائح الشخصية والعلاقات المشبوهة والأخبار المثيرة للجدل وقوداً يغذي هذه المسلسلات. ويسارع صحفيون لنشر مقاطع هذه الدراما أولًا بأول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتزيد من تشويه صورة الصحافة في عيون المشاهدين.

العصر الذهبي

شتّان بين هذه الصورة المستحدثة وبين أبطال "الصحافة الرزينة" في المسلسلات القديمة أو أفلام هوليوود حول بطولات صحفيي وصحفيات الاستقصاء في كشف الفساد وتزاوج السلطة ورأس المال.

آخر الأفلام، بعنوان مستر جون، يسرد جهد صحفي ويلزي مبتدئ غامر بحياته في الثلث الأول من القرن العشرين لكشف عوز مئات آلاف المواطنين السوفييت، وموت الآلاف منهم في مجاعة سعى حكم جوزيف ستالين لطمسها وراء بروباغاندا من الإنجازات الوهمية.


اليوم تنقلب الصورة

الأكثر قلقاً اليوم تأثير هذه الصورة النمطية المعكوسة على جيل الشباب الطموح الذي يحلم بدخول عالم الصحافة. سمعت منهم مباشرة عن رغبتهم في "التخفي" لقنص قصص، أو حتى التفكير بتقديم رشاوى للوصول إلى معلومات حصرية.

هذا التصور المشوه يتنافى مع أخلاقيات الإعلام ومبادئه، التي تقوم على الاندماج مع هموم الناس، من المزارعين الذين يكافحون من أجل لقمة العيش إلى اللاجئين الذين يبحثون عن مأوى آمن والفئات المهمشة التي تحتاج إلى من يوصل صوتها.

فأخلاقيات المهنة بالنسبة لنا تمثل قيدًا ذاتيًا أقوى بكثير من أي قانون، وهي التي توجه خطواتنا في البحث عن الحقيقة وتقديمها بمسؤولية.

صناعة الإعلام تحمل على عاتقها مسؤولية اجتماعية عظيمة. فهي ليست مجرد وسيلة لنقل الأخبار والمعلومات، بل أداة للتغيير الإيجابي، منبر للدفاع عن الحقوق وعين ساهرة على مصالح المجتمع. الصحافة المسؤولة تسعى لتعزيز الوعي وقيم النزاهة والشفافية والمساهمة في بناء مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا.

لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في تفاقم هذه المشكلة، إذ أصبحت الفضائح الشخصية تنتشر بسرعة البرق وتتصدر اهتمامات المتابعين.

لكن الدراما، بما لها من تأثير قوي على تشكيل الوعي، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية في ترسيخ صورة نمطية سلبية للصحفي.

عسى أن نرى في المستقبل أعمالًا درامية أكثر وعيًا بمسؤوليتها، تقدم صورة أكثر واقعية وتوازنًا لدور الصحافة والصحفيين، وتسلط الضوء على الجوانب الإيجابية والمهمة لهذه المهنة الحيوية، بدلًا من التركيز فقط على الإثارة الرخيصة وانتهاك الخصوصية. إذذاك ربما، عندما يتلقى أحدهم مقطع فيديو لشخصية مشهورة في لحظة خاصة، لن يتبادر إلى ذهنه فورًا أنه "سبق صحفي" بل اقتحام للخصوصية وتطفل على الناس.